فصل: ذكر الواقعة التي استشهد فيها أيبك الأخرش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر اجتماع الإفرنج تقصد عكا:

وكان السلطان اشترط على نفسه حين تسلم عسقلان أنه إن أمر الملك بتسليمها أطلقه فأمرهم بتسليمها وسلموها فطالبه الملك بإطلاقه فأطلقه وفاءً بالشرط ونحن على حصن الأكراد من أنطرسوس واشترط عليه أن لا يشهر في وجهه سيفاً أبداً ويكون غلامه ومملوكه وطليقه أبداً فنكث لعنه الله فجمع جموعاً وأتى صور يطلب الدخول إليها فخيم على بابها يراجع المركيس الذي كان بها في ذلك الوقت وكان المركيس اللعين رجلاً عظيماً ذا رأي وبأس شديد في دينه وصرامة عظيمة فقال إني نائب للملوك الذين وراء البحر وما أذنوا لي في تسليمها إليك وطالت المراجعة واستقرت القاعدة بينهما على أن يتفقوا جميعاً على المسلمين وتجمع العساكر بصور وغيرها من الإفرنجية على المسلمين وعسكروا على باب صور.

.ذكر الواقعة التي استشهد فيها أيبك الأخرش:

وذلك أنه لما كان يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأول من السنة المذكورة بلغ السلطان من اليزك أن الإفرنج قد قطعوا الجسر الفاصل بين أرض صور وأرض صيدا وبقيت الأرض التي نحن عليها فركب السلطان وصاح الجاووش فركب العسكر يريدون نحو اليزك فوصل العسكر وقد انفصلت الوقعة وذلك أن الإفرنج عبر منهم جماعة الجسر فنهض لهم اليزك الإسلامي وكانوا في قوة وعدة فقاتلوهم قتالاً شديداً وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وجرحوا أضعاف ما قتلوا ورموا في النهر جماعة فغرقوا ونصر الله الإسلام وأهله ولم يقتل من المسلمين إلا مملوك للسلطان يعرف بأيبك الأخرش فإنه استشهد في ذلك اليوم وكان شجاعاً باسلاً مجرباً في الحرب فارساً تقنطر به فرسه فلجأ إلى صخرة فقاتل بالنشاب حتى فني ثم بالسيف حتى قتل جماعة ثم تكاثروا عليه فقتلوه ووَجِد السلطان عليه لمكان شجاعته وعاد السلطان إلى خيم كانت قد ضربت له قريب المكان جريدة.

.ذكر وقعة ثانية استشهد فيها جمع من رجاله المسلمين:

وأقام في تلك الخيم إلى التاسع عشر وركب يشرف على القوم على عادة فتبع العسكر خلق عظيم من الرجالة والغزاة والسوقة وحرص في ردهم فلم يفعلوا ولقد أمر من ضربهم فلم يفعلوا وخاف عليهم فإن المكان كان حرجاً ليس للراجل فيه ملجأ ثم هجم الرجالة إلى الجسر وناوشوا العدو وعبر منهم جماعة إليهم وجرى بينهم قتال شديد واجتمع بهم من الإفرنج خلق عظيم وهم لا يشعرون وكشفوهم بحيث علموا أن ليس وراءهم كمين فحملوا عليهم حملة واحدة على غرة من السلطان فإنه كان بعيداً عنهم ولم يكن معه عسكر فإنه لم يخرج بتعبية قتال وإنما ركب مستشرفاً عليهم على العادة من كل يوم ولما بان له الوقعة وظهر له غبارها بعث إليهم من كان معه ليردوهم فوجدوا الأمر قد فرط والإفرنج قد تكاثروا حتى خافت منهم السرية التي بعثها السلطان وظفروا بالرجالة ظفرة عظيمة وجرى بينهم وبين السرية قتال شديد وأسر جماعة من الرجالة وقتلوا جماعة وكان عدد الشهداء مائة وثمانين نفراً وقتل أيضاً من الإفرنج عدة عظيمة وغرق أيضاً منهم عدة وكان ممن قتل منهم مقدم الألمانية وكان عندهم عظيماً محترماً واستشهد من المعروفين من المسلمين ابن البصاروا وكان شاباً حسناً شجاعاً واحتسبه والده في سبيل الله ولم تقطر من عينه عليه دمعة على ما ذكر جماعة لازموه وهذه الوقعة لم يتفق للإفرنج مثلها في هذه الوقائع التي حضرتها وشاهدتها ولم ينالوا من المسلمين مثل هذه العدة في هذه المدة.

.ذكر مسيرة الجريدة إلى عكا وسبب ذلك:

ولما رأى السلطان ما حل بالمسلمين في تلك الوقعة النادرة جمع أصحابه وشاورهم وقدر معهم أنه يهجم على الإفرنج ويعبر الجسر ويقتلهم ويستأصل شأفتهم وكان الإفرنج قد رحلوا من صور ونزلوا قريب الجسر وبين الجسر وصور مقدار فرسخ وزائد على فرسخ فلما صمم العزم على ذلك أصبح يوم الخميس سابع عشر وركب وسار وتبعه الناس والمقاتلة والعساكر ولما وصل أواخر الناس إلى أوائلهم وجدوا اليزك عائداً وخيامهم قد قلعت فسئلوا عن سبب ذلك فذكروا أن الإفرنج رحلوا راجعين إلى صور ملتجئين إلى سورها معتصمين بقربها وأنهم لما بلغهم ذلك عادوا ولما رأى السلطان ذلك منهم رأى أن يسير إلى عكا ليلحظ ما بني من سورها ويحث على الباقي فمضى إلى عكا ورتب أحوالها وأمر بتتمة عمارة سورها وإتقانه وإحكامه وأمرهم بالاحتياط والاحتراز وعاد إلى العسكر المنصور إلى مرج عيون منتظراً مهلة صاحب الشقيف لعنه الله.

.ذكر وقعة أخرى:

ولما كان يوم السبت سادس جمادى الآخرى بلغه أن جماعة من رجالة العدو يسطون ويصلون إلى جبل تبنين يحتطبون وفي قلبه من رجالة المسلمين وما جرى عليهم أمر عظيم فرأى أن يقرر قاعدة وكميناً يرتبه لهم ويأخذهم فيه وبلغه أنه يخرج وراءهم أيضاً خيلاً تحفظهم فعمل كميناً يصلح للقاء الجميع ثم أنفذ إلى عسكر تبنين وتقدم إليهم أن يخرجوا في نفر يسير غائرين على تلك الرجالة وأن خيل العدو إذا تبعتهم ينهزمون إلى جهة عينها لهم وأن يكون ذلك صبيحة الاثنين ثامن جمادى الآخرى وأرسل إلى عسكر عكا أن يسير حتى يكون وراء عسكر العدو حتى إذا تحركوا في نصرة أصحابهم قصدوا خيمهم وركب هو وجحفله فجر يوم الاثنين شاكي السلاح متجردين ليس معهم خيمة إلى الجهة التي عينها لهزيمة عسكر تبنين ورتب العسكر ثمانية أطلاب واستخرج من كل طلب عشرين فارساً من الشجعان الجياد الخيل وأمرهم أن يتراأوا للعدو حتى يظهر واليهم ويناوشوهم وينهزموا بين أيديهم حتى يصلوا إلى الكمين ففعلوا ذلك وظهر لهم من الإفرنج معظم عسكرهم يقدمهم الملك وكان قد بلغهم الخبر وتعبوا تعبية القتال وجرى بينهم وبين هذه السرية اليسير قتال شديد والتزمت السرية القتال وأنفوا عن الانهزام بين أيديهم وحملتهم الحمية على مخالفة السلطان ولقائهم العدو الكثير بذلك الجمع اليسير واتصل الحرب بينهم إلى أواخر نهار الاثنين ولم يرجع منهم أحد إلى العسكر ليخبرهم بما جرى واتصل الخبر بالسلطان في أواخر الأمر وقد هجم الليل فبعث إليهم بعوثاً كثيرة حين علم ضيق الوقت عن المصاف وفوات الأمر ولما بصر الإفرنج بأوائل المدد قد لحق السرية عادوا منهزمين ناكصين على أعقابهم بعد أن جرت مقتلة عظيمة من الجانبين وكانت القتلى من الإفرنج على ما ذكر من حضر فإني لم أكن حاضرها زهاء عشرة أنفس ومن المسلمين ستة أنفار اثنان من اليزك وأربعة من العرب منهم الأمير رامل وكان شاباً تاماً حسن الشباب مقدم عشيرته. وكان سبب قتله أنه تقنطرت به فرسه ففداه ابن عمه بفرسه فتقنطرت به أيضاً وأسر هو وثلاثة من أهله. ولما بصر الإفرنج بالمدد للعسكر قتلوهم خشية الاستنقاذ وجرح خلق كثير من الطائفتين وخيل كثيرة. ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوك السلطان أثخن بالجراح حتى وقع بين القتلى وجراحاته تشخب دماً وبات ليلته أجمع على تلك الحالة إلى صبيحة يوم الثلاثاء فتفقده أصحابه فلم يجدوه فعرفوا السلطان فقده فأنفذ من يكشف خبره فوجدوه بين القتلى على مثال هذه الحالة فحملوه ونقلوه إلى المخيم على تلك الحال وعافاه الله وعاد السلطان إلى المخيم يوم الأربعاء عاشر الشهر منصوراً، فرحاً مسروراً.

.ذكر أخذ أصحاب الشقيف وسبب ذلك:

ثم استفاض بين الناس أن صاحب الشقيف فعل ما فعله من المهلة غيلة لا أنه صادق في ذلك وإنما قصد فيه تدفع الزمان وظهر لذلك مخائل كثيرة من الحرص في تحصيل الميرة وإتقان الأبواب وغير ذلك فرأى السلطان أن يصعد إلى سطح الجبل ليقرب من المكان ويرسل سراً من يمنع من دخول النجدة والميرة إليه وأظهر أن سبب ذلك شدة حر الزمان والفرار من وخم المرج. وكان انتقاله إلى سطح الجبل ليلة الثاني عشر من الشهر وقد مضى من الليل ربعه فما أصبح صاحب الشقيف إلا والخيمة مضروبة وبقي بعض العساكر بالمرج على حاله فلما رأى أصحاب الشقيف قرب العسكر منه وعلم أنه بقي من المدة بقية جمادى الآخرى حدثته نفسه أنه ينزل إلى خدمة السلطان ويستعطفه ويستزيده في المدة وتخيل له بما رأى من أخلاق السلطان ولطافته أن ذلك يتم فنزل إلى الخدمة وعرض المكان وقال المدة لم يبق منها إلا اليسير وأي فرق بين التسليم اليوم أو غداً وأظهر أنه بقي من أهله جماعة بصور وأنهم على الخروج منها في هذه الأيام وأقام في الخدمة ذلك اليوم إلى الليل وصعد القلعة ولم يظهر له السلطان شيئاً وأجراه على عادته وتقضى مدته ثم عاد ونزل أيام وقد قرب انتهاء المدة والفراغ منها وطلب الخلوة بالسلطان وسأل منه أن يمهله تمام السنة تسعة أشهر فأحس السلطان منه الغدر فماطله وما أيسه وقال نتفكر في ذلك ونجمع الجماعة ونأخذ رأيهم وما ينفصل الحال عليه نعرفك وضرب له خيمة قريبة من خيمته وأقام عليها حرساً لا يشعر بهم وهو على غاية من الإكرام والاحترام له والمراجعة والمراسلة بينهم في ذلك الفن مستمرة حتى انقضت الأيام وطولب بتسليم المكان فكشف له أنك أضمرت الغدر وجددت في المكان عمائر، وحملت إليه ذخائر فأنكر ذلك واستقرت القاعدة على أن ينفذ من عنده ثقته وينفذ السلطان ثقة يتسلم المكان وينظر هل تجدد فيه شيء من البناء أم لا فمضوا إليه فلم يلتفت أصحابه المقيمون إليهم ووجدوه قد جدد باباً للسور لم يكن فأقيم الحرس الشديد عليه وأظهر ذلك ومنع من الدخول إلى الخدمة وقيل له قد انقضت المدة ولا بد من التسليم وهو يغالط عن ذلك ويدافع عن الجواب عنه، ولما كان الثامن عشر من جمادى الآخرة وفيه اعترف بانتهاء المدة قال أنا أمضي وأسلم المكان وسار معه جمع كثير من الأمراء والأجناد حتى أتى الشقيف وأمرهم بالتسليم فأبوا فخرج إليه قسيس وحدثه بلسانه ثم عاد واشتد امتناعهم بعد عود القسيس إليهم فظن أنه أكد الوصية على القسيس في الامتناع وأقام ذلك اليوم والحديث يتردد فلم يتلفتوا وأعيد إلى المخيم المنصور وسير من ليلته إلى بانياس وأحيط عليه بقلعتها فأحدق العسكر بالشقيف مقاتلين ومحاصرين وأقام صاحب الشقيف ببانياس إلى سادس رجب واشتد حنق السلطان على صاحب الشقيف بسبب تضييع ثلاثة أشهر عليه وعلى عسكره ولم يعملوا فيها شيئاً فأحضر إلى المخيم وهدد ليلة وصوله بأمور عظيمة فلم يفعل وأصبح السلطان ثامن رجب ورقي إلى سنام الجبل مخيمه وهو موضع مشرف على الشقيف من المكان الذي كان فيه أولى وأبعد من الوخم وكان قد تغير مزاجه، ثم بلغنا بعد ذلك أن الإفرنج بصور مع الملك قد ساروا نحو النواقير يريدون جهة عكا وإن بعضهم نزل بالإسكندرية وجرى بينهم وبين رجالة المسلمين مناوشة وقتل منهم المسلمون نفراً يسيراً وأقاموا هناك.